يمكن قياس جسم الإنسان من خلال العديد من المقاييس، إحداها عبارة عن ساحة مكعبة واحدة (0.8 متر مكعب)، التي تمثّل مقدار السماد الذي تنتجه الجثة لدى دمجها مع المواد النباتية، وتركها تتحلّل لمدة تتراوح بين 6 و10 أسابيع.
وهذه الحسبة أجرتها شركة “Recompose” للتسميد البشري، التي تتخذ من مدينة سياتل الأمريكية مقرًّا لها، وتوضح مدى الثراء العضوي الذي نخلّفه عندما نتخلّص من هذا الجسد الفاني، ومدى إمكانية توظيفه للاستخدام البيئي.
ولا تقتصر حركة الدفن الأخضر على إيجاد وسائل لتقليل الأثر البيئي للدفن فحسب، بل إيجاد طرق للناس كي تترك أثرًا إيجابيًا بعد الموت. وهذه الفكرة الأخيرة، ستطرحها شركة Transcend الناشئة، التي تتّخذ من مدينة نيويورك مقرًّا لها، قريبًا في الولايات المتحدة، وستعطي الناس فرصة حتى “يتحولوا” إلى شجرة بعد وفاتهم.
وتصف “Transcend” العملية على النحو التالي: يختار الزبائن نوعًا من الأشجار مناسبًا لموقع الدفن المفضل لديهم، على أرض مملوكة من قبل الشركة. وعندما يفارق الزبون الحياة، يتم تكفين جسده بقماش الكتان القابل للتحلل الحيوي ودفنه محاطًا بمزيج من رقائق الخشب، والتربة المحلية، والفطريات، لتسهيل عملية التسميد.
وتُزرع فوق الجسم شجرة يتراوح عمرها بين سنتين وأربع سنوات، قادرة على امتصاص التدفق الغني للعناصر الغذائية التي تفرزها الجثة. ثم توضع لافتة تذكارية على الموقع، وتترك الشجرة كي تنمو.
وتفيد شركة “Transcend” أنها لم تحدّد بعد مواقع الدفن الأولى، لكنها تسعى لذلك حتى لا تبعد أكثر من ساعتين عن مدينة رئيسية. ويتم اختيار الأرض بالشراكة مع “One Tree Planted” التي لا تهدف إلى الربح، وذلك بناءً على حاجتها إلى إعادة التحريج، وستتم حمايتها قانونًا، من التنمية المستقبلية.
وأسّس رجل الأعمال ماثيو كوتشمان الشركة. وقال لـCNN: “ما جعلني أنحاز شخصيًا باتجاه حركة الدفن الخضراء، أسئلة مثل ما هو المسار الأبسط والأكثر طبيعية؟ وما هي الطريقة التي كانت معتمدة لآلاف السنين”؟
واستوحى كوتشمان من “Capsula Mundi”، الصندوق القابل للتحلل، البيضاوي الشكل من تصميم الإيطاليين راؤول بريتزل وآنا سيتيللي، الذي يمكن زرع شجرة فوقه. وبينما ابتكر الثنائي نسخة مناسبة للرماد المحترق، لكنه لم ينتج إلى الآن نموذجًا للجسم.
وأشار كوتشمان إلى أنّه “بحلول نهاية عام 2023، نأمل أن يكون هناك عدد قليل من المواقع المفتوحة والحيوية حتى نزرع فيها العديد من الأشخاص”، مستدركًا: “لكن بداية أيضًا على الناس أن يعربوا مسبقًا وعلى نحو واضح، عن رغبتهم بذلك من خلال القول ’أريد أن أكون شجرة عندما أموت‘”.
كسر الاحتكار الثنائي للدفن والحرق
ويهمين نوعان من الجنازات في الولايات المتحدة وتشوبهما عيوب بيئية. وتستخدم المدافن التقليدية سنويًا ملايين الغالونات من مواد كيميائية مثل الفورمالديهايد، وملايين الأقدام من الخشب، وأكثر من مليون طن من الخرسانة، وآلاف الأطنان من النحاس، والبرونز، والصلب، وفقًا لمجلس الدفن الأخضر. ويختار غالبية الأمريكيين الآن حرق الجثث، لكن رغم أن هذه الطريقة لا تستهلك الأرض بطريقة الدفن التقليدية ذاتها، فإنها تنتج 1.74 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا، فضلاً عن إطلاق بعض المعادن الثقيلة، بينها الزئبق، في الغلاف الجوي.
ولم يكن الأمر دومًا على هذا النحو، وفقًا لما ذكره جيمي أولسون، من “Olson Funeral Home and Cremation Service” في منطقة شيبويغان، بولاية ويسكونسن الأمريكية، وهو من أوائل من تبنوا خيارات الدفن الخضراء الحديثة.
وأوضح أنه بدأ بممارسة التحنيط خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وتم إدخال الصناديق في حاوية خرسانية بعد الحرب العالمية الثانية لمنع القبور من الانهيار، عندما أصبحت معدات الحفر الثقيلة وجزازات العشب شائعة في المقابر، لافتًا إلى أن “كل ما نقوم به هنا هو العودة إلى الطريقة التي قمنا بها قبل 100 عام”، في المدافن الطبيعية التي توزعت في المروج والمناطق المشجرة.
وقالت كايتلين هوك، الرئيسة السابقة لمجلس الدفن الأخضر الدولي، إنّ “العديد من الناس يميلون إلى الاعتقاد بالدفن التقليدي وحرق الجثث كخيارين وحيدين، لكن ما أن يطّلعوا على الدفن الأخضر (والبدائل الأخرى)، فإنهم يعيدون النظر بذلك”.
وبالنسبة لأولئك الذين يريدون رد الجميل للأرض عند وفاتهم، اتسعت الخيارات في السنوات الأخيرة.
ويُعتبر شكل من أشكال حرق الجثث استخدام السوائل، والمعروف باسم “aquamation”، أمرًا قانونيًا في أكثر من 12 ولاية، ويمكن أن يحد إلى درجة كبيرة من البصمة الكربونية لحرق الجثث أثناء إنتاج سماد سائل غني بالمغذيات.
وقال كوتشمان، إنّ Transcend “تضطلع بمهمة إعادة تشجير العالم”، وستقدر كلفة كل مدفن يتم شراؤه بـ1000 شجرة تزرعها One Tree Planted، ما يعني أن العملاء يمكنهم إحداث أثر حتى قبل الموت.
“من الصعب جعل الناس يفكرون بالموت مباشرة”
وتمكنت Transcend من جذب دعم رفيع المستوى مثل دارِن أرونوفسكي المخرج المرشح لجائزة الأوسكار، الذي يعمل في المجلس الاستشاري للشركة جنبًا إلى جنب مع خبيرة التحلل البشري جينيفر ديبروين، وعالمة الأحياء الميكروبية لدى “Body Farm” بجامعة تينيسي، ومات هيل مؤسس One Tree Planted.
وقال أرونوفسكي في ندوة نظمتها Transcend مؤخرًا، “إنها مهمة شاقة أن تجعل الناس يفكرون بالموت على نحو مباشر، لكن الناس منخرطون جدًا في موضوع البيئة”.
وبحسب مسح أجرته جمعية مديري الجنازات الوطنية الأمريكية (NFDA) في عام 2017، ناقش 21٪ فقط من الناس خطط الجنازات الخاصة بهم مع العائلة، رغم أنّ ما يقرب من الثلثين أقرّوا بأهمية القيام بذلك.
وأوضح كوتشمان أنّ “الكثير ممّا نقوم به هنا هو استخدام الشجرة كاستعارة لجذب الناس إلى محادثة غير مريحة”، لافتًا إلى أنّ “الطبيعة تمتلك قدرة كي تكون أداة مهدئة”.
وأضاف: “أنا لا أنظر إلينا كشركة رعاية موت أو شركة جنازات.. والسبب الكامن وراء هذه الشركة هو علاج علاقة المجتمع مع الموت”.
وتُقدر كلفة عرض الدفن الذي تقدمه Transcend بمبلغ 8500 دولار، وهو أعلى من متوسط تكلفة الجنازة مع الدفن (7848 دولارًا) أو حرق الجثة (6971 دولارًا) خلال عام 2021، وذلك بحسب بيانات NFDA، لكن ليس بشكل كبير.
وأقرّ كوتشمان بأنّ إدارة شركة ناشئة في مجال الرعاية الجنائزية لا تشبه أي صناعة أخرى، موضحًا: “هذا ليس تطبيقًا يمكننا تشغيله، ومضيفًا: “نحن نتحمّل مسؤولية صيانة ورعاية دائمتين”.
ورفض المؤسس وضع رقم حول عدد العملاء الذين سيُطلب منهم التسجيل لجعل العمل قابلاً للتطبيق على المدى الطويل. ونشرت الشركة على موقعها الإلكتروني أنه “حتى لو تم إغلاق برنامج Transcend، فإن جميع مدافن الأشجار المنفذة ستكون محمية بنسبة 100٪”.
ومع ذلك، أعرب كوتشمان عن تفاؤله بأن الشركة ستجري أول عملية دفن لها في الربيع أو الصيف هذا العام، وينتظر حاليًا تأكيد مواقع الدفن الأولى. وقال إنها “عملية دقيقة ومعقدة”.
وحتى قبل حفر المدفن الأول في الولايات المتحدة، يفكر كوتشمان بالفعل على المستوى الدولي، ويقوم برحلات بحثية إلى الخارج، ويؤمن إيمانًا راسخًا بأن الدفن من خلال التحول إلى شجرة يمكن أن يجد قبولًا عابرًا للثقافات والأديان.